قال رحمه الله: 'فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر' أي ما كان منافياً لما خلق الله تعالى من أجله الناس، ومنافياً لما أمرهم به، فهو أكبر الكبائر.
قال: 'وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات' يعني تتفاوت الكبائر بحسب قربها من الشرك، وكل معصية ترتكب فإنها تمس العقيدة بقدر ذلك الذنب وتلك المعصية؛ ولهذا فإن أعظم الذنوب هي التي يأتيها الإنسان بدافع الشبهة والبدعة، فهي أعظم من التي تكون بدافع الشهوة؛ لأنها أقرب إلى الشرك، فمن هنا كانت أخطر من الذنوب التي لا يقترن بها شبهة ولا بدعة؛ على أن البدع بذاتها درجات, كما أن الذنوب الشهوانية العملية أيضاً درجات.
يقول: 'فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله, تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، فيما فرضه على عباده، وحَرَّمَه عليهم، وتَفَاوُت مراتب الطاعات والمعاصي.
فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود، كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحَرَّمَ اللهُ الجنة على كل مشرك، وأباحَ دَمَه ومالَه لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيداً لهم؛ لما تركوا القيام بعبوديته"، فالذي رفض وأبى واستكبر أن يكون عبداً لرب العالمين يستحق من العقوبة أن يكون عبداً لمن يعبد رب العالمين.
وهذا مما يدل على فضل التوحيد وأهله، وعلى إهانة الله تبارك وتعالى للشرك وأهله، فلا مُكرِم لهم, ولا قيمة لهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأما هذه المنظمات الدولية التي ترفع عقيرتها بالمناداة بحقوق الإنسان زاعمة أنه لا رقّ في هذا القرن, فلم يعلموا لجهلهم أن أعظم الحقوق على الإطلاق هو حق الله على عباده بأن يُعبد وحده ولا يُشرك معه أحد, لأنه هو الذي من أجله خُلق الإنسان, ومن أجله قامت السماوات والأرض وبه قامت.. أما أن يكون من حقوق الإنسان -كما جاء في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان- أن يغير دينه كما يشاء, ولايحق لأحدٍ منعه؛ فهذا الميثاق إضاعة لأكبر وأعظم حق, وهو حق الله تبارك وتعالى.
نعم أعطى الإسلام الحرية للإنسان ابتداءً في الدخول في هذا الدين لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] لكن بعد ذلك ليس له الرجوع عنه، وإن ارتد قُتل.
فهذا الدين دين الحرية الحقة, الذي يحرر الإنسان من الشهوات, ومن عبادة الشيطان, ومن عبادة الأنداد والبشر والأحبار والرهبان والكهان والأباطرة وغيرهم؛ ممن ادعى الربوبية أو الألوهية مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وإن الكفار الذين يعبدون غير الله لما تركوا القيام بعبودية الله استحقوا أن يكونوا عبيداً لمن قام بحق العبودية لله، وهم المؤمنون، ولذلك إذا ترك المؤمنون التوحيد, سُلِّط الكافرون عليهم عقوبةً لهم, ولأنهم عرفوا الحق وتركوه, وتنكبوا طريقه.
يقول: 'وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً، أو أن يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقيل له فيها عثرة، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نداً، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربه، وإنما ظلم نفسه'.
إن الظلم والجهل أسوأ صفتين في الإنسان؛ وكفى بواحدة منها شراً، وإذا اجتمعتا فلا شر أكبر منهما، كما قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
وغاية الجهل أن يجعل الإنسان لله نداً، وغاية الظلم أن يسقط الإنسان حق الله ويعطيه لغير الله -وذلك هو الشرك- فكل شر في الدنيا خَطَرَ على بَالِكَ فهو آت من قبل الظلم أو الجهل، فالمشرك جاهل بالله لأنه ما قدّر الله حق قدره ولهذا عَبَدَ معه غيره, وهو ظالم لنفسه أشد الظلم، لأنه يصرف حق الله الخالص ويعطيه لغيره، ومن عبد مخلوقاً مثله فيكون كما قال فرعون وقومه: وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47] والمقصود أن أصل الشر والبلاء يأتي من قبل العابدين لا المعبودين من دون الله فهم أسماء سماها العابدون، ولو لم يعبدوهم ما كانوا شيئاً؛ فلو قال قوم فرعون لفرعون -حين قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]- لو قالوا: لست كذلك؛ بل أنت بشر مثلنا، ما فعل شيئاً، فما بالكم بالحجارة وغيرها؟! فالسبب العابدون، ولذا لا ينفعهم يوم القيامة أن يقولوا: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا [الأحزاب:67] لأنه لولا هذا الجاهل ما تفرعن المتفرعن ولا ادعى الألوهية ذلك المدعي.
أقسام الشرك
ثم بين رحمه الله بعد ذلك أقسام الشرك فقال: 'الشرك شركان -وهذا من حيث الأصل- شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله. وشرك في عبادته ومعاملته'.
الشرك الأول: في أسمائه وصفاته وأفعاله، أي فيما هو من خصائصه تبارك وتعالى، أما الثاني: فهو في معاملته وفي عبادته، وفيما يتقرب العباد به إلى الله عز وجل.
يقول: 'وإن كان صاحبه -يعني النوع الثاني من الشرك- يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله'.
ولذلك كان تعريف التوحيد عند أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة وأشباههم ناقصاً؛ فإنهم يقولون في تعريف التوحيد: التوحيد أن تعتقد أن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، ومعنى اعتقاده واحداً أنه ليس مركباً ولا مبعضاً ولا متعدداً، فليس اثنين ولا ثلاثة، بل هو واحد في ذاته, واحد في أسمائه, واحد في صفاته, واحد في أفعاله، ومعلوم أن هذا ليس هو التوحيد, بل هو جزء من التوحيد، ويجب أن يُكَمَّل التعريف فيقال: وأن يُعْبَدَ وحده لا شريك له ويُتَقَرَّبَ إليه وحده لا شريك له, فيكون إخلاصك ورجاؤك ويقينك ومحبتك وإنابتك ورغبتك ورهبتك وصلاتك وصيامك وحجك ونذرك كله لله.